فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}
و{لَنُخْرِجَنَّكُمْ}: جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ، كقوله: {ولَنَصْبِرَنَّ}.
قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} في {أوْ} ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها على بابِها مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين. والثاني: أنها بمعنى حتى. والثالث: أنها بمعنى إلا، كقولهم: لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي. والقولان الأخيران مَرْدُودان؛ إذ لا يَصِحُّ تركيبُ حتى ولا تركيبُ إلا مع قوله: {لَتَعُودُونَّ} بخلافِ المثال المتقدم.
والعَوْدُ هنا: يُحتمل أن يكونَ على بابِه، أي: لَتَرْجِعُنَّ. و: {فِي مِلَّتِنَا} متعلقٌ به، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ نصبٍ خبرًا لها، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. قال: فإنْ قلتَ: كأنَّهم على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها. قلت: مَعاذَ اللهِ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى الصيرورة، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار، ولكن عاد: ما عُدْتُ أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مالٌ، أو خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد. فقوله أو خاطبوا إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ، وهون تأويلٌ حسنٌ.
قوله: {لَنُهْلِكَنَّ} جوابُ قسمٍ مضمر، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على إضمارِ القول، أي: قال: لَنُهْلِكَنَّ. والثاني: أنه أجرى الإِيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه.
وقرأ أبو حَيْوَةَ {لَيُهْلِكَنَّ}، و{لَيُسْكِنَنَّكم} بياءِ الغَيْبة مناسَبَةً لقوله: {ربُّهم}.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}
قوله تعالى: {ذلك}: مبتدأٌ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ. و{لِمَنْ خاف} الخبر. و{مَقامي} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ الأسماءُ لا تُقْحم. الثاني: أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل.
قال الفراء: {مَقامي}: مصدرٌ مضافٌ لفاعِله، أي: قيامي عليه بالحِفْظ. الثالث: أنه اسمُ مكانٍ. قال الزجاج: مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ، كقولِه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46].
قوله: {وَعِيْد} أثبت الياءَ هنا وفي في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [الآية: 14]: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [الآية: 45] وصلًا وحَذَفَها وَقْفًا ورشٌ عن نافع، وحذفها الباقون وَصْلًا ووقفًا.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}
قوله تعالى: {واستفتحوا}: العامَّةُ على {استفتحوا} فعلًا ماضيًا، وفي ضميرِه أقوالٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاحِ: الاستنصارُ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19]. وقيل: طَلَبُ الحكم من الفُتاحة. الثاني: أن يعودَ على الكفَّار، أي: استفتح أُمَمُ الرسلِ عليهم، كقولِه: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32]. وقيل: عائدٌ على الفريقين لأنَّ كُلًا طلبَ النصرَ على صاحبِه. وقيل: يعودُ على قريشٍ لأنهم في سِنِي الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا، وهو على هذا مستأنفٌ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه: {فأوحى إِلَيْهِمْ}.
وقرأ ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن {واسْتَفْتِحوا} على لفظِ الأمر، أمرًا للرسل بطلبِ النُّصرة، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل. والتقدير: قال لهم: لنهلكنَّ وقال لهم: اسْتَفْتِحُوا.
قوله: {وخابَ} هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه: انتَصروا وظَفِرُوا وخاب. ويجوز أن يكونَ عطفًا على {اسْتَفْتحوا} على انَّ الضميرَ فيه للكفار. وفي غيرها على القولِ المحذوف، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على الخبر وبالعكس.
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)}
و{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}: جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً ل {جبارٍ}. ويجوز أَنْ تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ، و{جهنمُ} فاعلٌ به. وقوله: {ويُسْقَى} صفةٌ معطوفةٌ على الصفةِ قبلَها، جملةٌ فعلية على اسمية. وإنْ جَعَلْتَ الصفةَ من الجارِّ وحدَه، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية. وقيل: عطفٌ على محذوفٍ، أي: يُلْقَى فيها ويُسْقَى.
و{وراء} هنا على بابها. وقيل: بمعنى أمام فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: {منْ بين يديه} وأنشد:
عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه ** يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ

وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير. وقال الآخَرُ في ذلك:
أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ** وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا

أي: قُدَّامي. وقال آخر:
أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ** لُزومُ العَصَا تُحْنى عليها الأَصابعُ

وقال ثعلب: هو اسمٌ لِما توارَى عنك، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك.
قوله: {مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} في {صديد} ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه نعتٌ ل {ماء} وفيه تأويلان، أحدهما: أنه على حَذْفِ أداة التشبيه، أي: ماءٍ مثلِ صديد، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديدًا، بل مثلُه. والثاني: أنَّ الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ، وليس هو ماءً حقيقةً، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء. وهو قول ابن عطية. وإلى كونِه صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره. وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ، إلا على مَنْ فسَّره بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود، أخذه مِن الصَّدِّ، فكأنه لكراهيِتِه مَصْدودٌ عنه، أي: يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ.
الثاني: أنه عطفُ بيانٍ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في النكرات، إنما قال به الكوفيون، وتَبعهم الفارسيُّ أيضًا.
الثالث: أن يكونَ بدلًا. وأعرب الفارسيُّ {زَيتونةٍ} مِنْ قولِه: {تُوْقَدُ مِنْ شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ} عطفَ بيان أيضًا.
والصَّديدُ: ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار. وقيل: ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ مِنَ القَيْحِ.
{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ}: يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً ل {ماءٍ}، وان تكونَ حالًا من الضمير في {يُسْقَى}، وأن تكونَ مستأنفةً. وتَجَرَّع تَفَعَّل وفيه احتمالاتٌ، أحدُها: أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو: عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ.
والثاني: أن يكونَ للتكلُّف نحو: تَحَلَّم، أي، يتكلَّفُ جَرْعَه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه: الثالث: أنه دالٌّ على المُهْلة نحو: فَهَّمته، أي: يتناوله شيئًا فشيئًا بالجَرْع، كما يَفْهم شيئًا فشيئًا بالتفهيم. الرابع: أنه بمعنى جَرَع المجرد نحو: عَدَوْت الشيءَ وتَعَدَّيْتُه.
{وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}، أي: لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاها} وستأتي إن شاء الله.
قوله: {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان، أظهرُهما: أنه عائدٌ على {كل جبار}. والثاني: أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}
قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ}: فيه أوجه، أحدُها:- وهو مذهبُ سيبويه- أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفةً جوابًا لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مَثَلُهم؟ فقيل: كيت وكيت. والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها غرابةٌ كقولِكَ، صفةُ زيدٍ، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مبذول.
الثاني: أن يكونَ {مَثَلَ} مبتدأً، و{أعمالُهم} مبتدأ ثانٍ، و{كرمادٍ} خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول. قال ابن عطية: وهذا عندي أرجحُ الأقوالِ، وكأنك قلت: المتحصِّلُ في النفس مثالًا للذين كفروا هذه الجملةُ المذكورةُ. وإليه نحا الحوفي. قال الشيخ: وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت خبرًا للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني عن رابطٍ. قلت: بل الجملةُ نفسُ المبتدأ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلًا منها لا يفيد شيئًا، ولا يَبْقَى له أثرٌ، فهو نظيرُ قولك هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ.
الثالث: أنَّ {مَثَلَ} مزيدةٌ، قاله الكسائيُّ والفراء: أي: الذين كفروا أعمالُهم كرَمادٍ، فالذين مبتدأ {أعمالُهم} مبتدأٌ ثانٍ و{كرمادٍ} خبرُه. وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ.
الرابع: أن يكونَ {مَثَلَ} مبتدأً، و{أعمالُهم} بدلٌ منه، على تقدير: مَثَلُ أعمالِهم، و{كرمادٍ} الخبرُ. قاله الزمخشريُّ، وعلى هذا فهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم.
الخامس: أن يكونَ {مَثَل} مبتدأً، و{أعمالُهم} بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ، و{كرمادٍ} الخبر، كقول الزَّبَّاء:
ما للجِمال مَشْيِها وئيدا ** أجَنْدَلًا يَحْمِلْن أم حديدا

والسادس: أن يكونَ {مَثَل} مبتدأً، و{أعمالُهم} خبرَه، أي: مَثَلُ أعمالِهم، فحذف المضاف. و{كرماد} على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقال أبو البقاء حين ذكر وجهَ البدل: ولو كان القرآن لجاز إبدالُ {أعمالهم} من {الذين} وهو بدلُ اشتمال، يعني أنه كان يُقْرَأُ {أعمالِهم} مجرورةً، لكنه لم يُقرأْ به.
و{الرمادُ} معروفٌ وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام، وجمعُه في الكثرة على رُمُد، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة، وجمعُه على أَرْمِدَاء شاذٌّ. والرِّماد: السَّنَةُ أيضًا، السَّنةُ: المَحْل، أَرْمَدَ الماءُ، أي: صار بلون الرماد، والأَرْمَدُ: ما كان على لونِ الرَّماد. وقيل للبعوض رُمْد لذلك، ويقال: رَمادٌ رِمْدِدٌ، صار هباءً.
قوله: {اشتدت بِهِ الريح} في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد، و{في يوم} متعلِّقٌ ب {اشْتَدَّت}.
قوله: {عاصفٍ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه على تقدير: عاصفٍ ريحُه، أو عاصفِ الريح، ثم حُذِفَ {الريح} وجُعلت الصفةُ لليوم مجازًا كقولهم: يومٌ ماطر وليلُ نائم. قال الهرويُّ: فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا، كما قال:
إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ **...........................

أي: كاسِفُ الشمسِ.
الثاني: أنه على النَّسَبِ، أي: ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر.
الثالث: أنه خُفِض على الجِوار، أي: كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في الإِعراب فيُقال: اشتدَّتْ به الريحُ العاصفُ في يوم، فلمَّا وقع بعد اليوم أُعْرِبَ بإعرابه، كقولهم: جُحرُ ضَبّ خَربٍ. وفي جَعْلِ هذا من باب الخفضِ على الجوارِ نظرٌ، لأنَّ مِنْ شرطِه: أن يكون بحيث لو جُعِل صفةُ لِما قُطع عن إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ لتخالفِهما تعريفا وتنكيرًا في هذا التركيبِ الخاصِّ.
وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة {يوم} ل {عاصِفٍ}. وهي على حَذْفِ الموصوفِ، أي: في يومِ ريحٍ عاصِف، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك. ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو: بَقْلَةُ الحَمْقَاء.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}.
لما عجز الأعداءُ عن معارضة الأنبياء عليهم السلام في الإتيان بمثل آياتهم أخذوا في الجفاء معهم بأنواع الإنذار، والتهديد بفنون البلاء من الإخراج عن الأوطان، والتشريد في البلدان وبسط الله على قلوبهم بوعد نصره ولقائه ما أظلَّهم من الأمر، ومَكَّن لهم من مساكن أعدائهم بما قَوَّى قلوبهم على الصبرعلى مقاساة بلائهم فقال: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمينَ}، وقال: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}.
{وَخَافَ وَعِيدِ}: أي خاف مقامه في محل الحساب غدًا فأناب إلى نفسه على وجه التخصيص.
ويقال خاف مقامي أي هاب إطلاعي عليه، فالأول تذكير المحاسبة في الآجل، والثاني تحقيق المراقبة في العاجل.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}.
الاستفتاح طلب الفتح، الفتح القضاء، واستعجلوا حلول القضاء مثل قولهم: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمّطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] وغيره فلما نزل بهم البلاء، وتحقق لهم الأمر لم ينفعهم تضرعهم وبكاؤهم، ولم تُقْبَلْ منهم صدقتُهم وفداؤهم، وندموا حين لا ندامة، وجزعوا بعدما عَدِموا السلامة.
ويقال: {وَاسْتَفْتَحُوا}: بغير الرسل، ولما وجد الرسل إصرارَ قومهم سألوا النصرة عليهم من الله كقول نوح- عليه السلام: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وقول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يوسف: 88] فأجابهم الله بإهلاكهم.
ويقال إذا اشتد البلاءُ وصَدَقَ الدعاءُ قَرُبَ النَّجاء.
قوله جلّ ذكره: {مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}.
لفظ وراء يقع على ما بين يديه وعلى ما خَلْف، والوراء ما توارى عليك أي استتر؛ يريد الكافر يأتيه العذاب فيما بين يديه من الزمان، وعلى ما خَلْفَه؛ أي لأجل ما سلف من الماضي من قبيح أفعاله، ويُسْقَى من النار ما يشربه جرعة بعد جرعة، فلصعوبته مرارته لا يشربه مرةً واحدةً.
قوله جلّ ذكره: {وَيَأْتِيِهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
يرى العذابَ- من شدته- في كل عضو، وفي كل وقت، وفي كل مكان وليس ذلك الموت؛ لأنَّ أهلَ النار لا يموتون، ولكنه في الشدة كالموت. ثم {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: وهو الخلود في النار، وهذا جزاء مَنْ اغترَّ بأيامٍ قلائل ساعدته المشيئةُ فيها، وانخدع فلم يشرع بما يليها.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}.
أي وفيما يُتْلَى عليكَ- يا محمد- مَثَلٌ لأعمال الكفار في تلاشيها، وكيف أنه لا يُقبَلُ شيءٌ منها كَرَمَادٍ في يوم عاصف، فإنه لا يَبْقَى منه شيء- كذلك أعمالُهم. ومَنْ كان كذلك فقد خاب في الدارين، وحلَّ عليه الويل. اهـ.